السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
إن تربية الأبناء هى نتاج احتكاكهم الدائم بالكبار فى شتى المواقف والأوقات، فنحن
لا نجمع الأبناء مرة كل أسبوع ونقول لهم هذا موعدكم معنا لنربيكم !!
ولكن من خلال الأوقات الطويلة التى يقضيها الأبناء مع الأهل، ورؤيتهم لهم كيف يتصرفون
فى كل موقف، ثم أخذهم عنهم كقدوات ورموز أمام أعينهم يتعلمون منهم ويقلدونهم فى
كل ما يقولون ويفعلون، والأصل أن الكبار لا يألون جهداً فى تربية الصغار وإبداء القدوة
الحسنة لهم، ولكن قد لا ينتبهون إلى أن هناك أوقات يكون الصغار أكثر استعداداً واستجاب
لتلقي التوجيه من الوالدين أو المربين.
وإن اختيار الوالدين للوقت المناسب فى توجيه ما يريدان وتلقين أطفالهم ما يحبان دوراً
فعَّالاً في أن تؤتى النصيحة أُكلها، كما أن اختيار الوقت المناسب المؤثر فى الطفل يُسهِّل
ويقلل من الجهد المبذول فى العملية التربوية، فإن القلوب تقبل وتدبر، فليغتنم الوالدان
زمن إقبال قلوب أبنائهم.
ولقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- دقيق النظر إلى تحيُّن الزمان والمكان المناسبين
لتوجيه الطفل وبناء عقيدته وتصحيح سلوكه الخاطىء، ولذلك فنحن نلقي الضوء
على هذه الأوقات وأهميتها:
1- في النزهة والطريق والمركب:
من حق الطفل أن يصحب الكبار ليتعلم منهم، فتتغذى نفسه، ويتلقح عقله بلقاح العلم والحكمة
والمعرفة والتجربة، فتتهذب أخلاقه، وتتأصل عاداته، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
قدوة في ذلك، فعلمنا أنه صحب أنساً، وكذلك صحب أبناء جعفر ابن عمه، والفضل ابن عمه،
وها هو عبد الله بن عبَّاس -ابن عمه صلى الله عليه وسلم - يسير بصحبته صلى الله عليه
وسلم على دابته، فينتهز النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة من الصحبة فى الهواء
الطلق، والذهن خالٍ، والقلب مفتوح، فيعلمه كلمات، على قدر سنّه واستيعابه، فى خطابٍ
مختصر ومباشر وسهل، مع ما يحمله من معانٍ عظيمة يسهل على الطفل فهمها واستخلاصها،
فيروي ابن عباس ويقول:
كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال:"يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك
احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت
على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك
بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك جفت الأقلام ورفعت الصحف"، صحيح.
إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الأول؛ يراعي عمر الطفل وقدراته العقلية، فيعطيه
جرعة التعليم والتوجيه التى يستوعبها فهمه، ويدركها عقله، ويتخير لهذا التوجيه أنسب
الأوقات والأماكن، فلم تكن هذه التوجيهات فى غرفة محدودة، وإنما فى الهواء الطلق ..
حيث نفس الطفل أشد استعداداً للتلقي وأقوى على قبول النصائح والتوجيهات، ثم يلقي
الموعظة الإيمانية على الطفل؛ فيعتقدها قلبه،وتظهر على سلوكه، فيجتمع فيه العلم والعمل.
2- وقت الطعام:
فحينها يحب الطفل أن ينطلق على سجيته، وينال بغيته من وليمة الطعام المعدَّة أمامه،
وقد يضعف أمام شهوة الطعام، فتصدر منه أفعالاً شائنة أحياناً، وقد يخل بالآداب أحياناً أخرى،
وإذا لم يجلس والديه معه باستمرار أثناء الطعام ويصححا له أخطاؤه فإن الطفل سيبقى فى
براثن العادات السيئة المنفرة، وسيفقد الوالدين وقتاً مناسباً لتوجيه الصغير وتعليمه، وعند
جلوس الطفل مع الوالدين أو الكبار أثناء الطعام؛ سيكون سعيداً لمشاركته الكبار فى وليمتهم،
فإذا صدر منه- حينئذ- سلوك خاطىء وقاما بتوجيهه برفق، مع توضيح السلوك الصحيح، لاقى-
ذلك التصحيح- قبولاً عنده ورسوخاً فى القيمة التي تعلمها أثناء موقف تناول الطعام مع الكبار،
وهذا عمر بن أبى سلمة رضى الله عنه يصف ذلك ويقول:
((كنت غلاماً في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول
الله: "يا غلام؛ سمِّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك"، فما زالت طعمتي بعد))، صحيح.
وفى رواية أبى داود والترمذى وابن حبان فى صحيحه:
"ادن يا بني فسمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"، صحيح.
3- وقت مرض الطفل:
إذ المرض يلين قلوب الكبار القساة، فما بالنا بالأطفال الذين مازالت قلوبهم عامرة باللين
وحسن الاستقبال؟
والطفل في المرض تجتمع لديه صفتان حميدتان:
الأولى: فطرية الطفولة.
والثانية: رقة القلب عند المرض.
فعن أنس رضي الله عنه قال: ((كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم -
فمرض فأتاه النبى صلى الله عليه وسلم – يعوده، فقعد عند رأسه فقال له:
"أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى
الله عليه وسلم وهو يقول:" الحمد لله الذى أنقذه من النار"، رواه البخاري. وعلى الرغم
من أن هذا الطفل كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يدعوه إلى الإسلام بعد،
إلى أن وجد النبى الوقت المناسب لدعوته، فأتاه وعاده فى مرضه ودعاه إلى الإسلام،
فكانت هذه الزيارة مفتاح النور لهذا الطفل.
وعن السائب بن يزيد قال:
((ذهبت بي خالتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
يا رسول الله إن ابن أختي وجعُ، قال: فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من
وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة -
بيض نوع من الطيور-))، متفق عليه.
فأوقات مرض الطفل أو توعكه من الأوقات التى يكون مهيأ فيها لمراجعة بعض الأخطاء أو
تصحيح السلوك الغير سليم وعقد الإتفاقات معه على ذلك.
وهكذا نرى أعزائي المربين والمربيات أن هذه الأوقات والتي لابد أن تمر علينا بصحبة
الأحباب الصغار، تعتبر فرصة طيبة لتوجيههم إيمانياً وخلقياً مع فرحهم بهذا التوجيه
وقبولهم له، لأن رسائل محبتنا وتقديرنا لهم تصلهم بوضوح مع رسائل التوجيه التى نسديها