تم تصدير هذا الكتاب آليا بواسطة المكتبة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة المكتبة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة
ص -860- ولا يسمعه أحد وأن هذا محال فهو عندنا وعندكم بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام. فعند التحقيق نحن وأنتم متفقون على الأصول والقواعد التي نفت هذه الأمور وهي بعينها تنفي صحة نبوة من أخبر بها فكيف يمكن أن يصدق من جاء بها وقد اعترفتم معنا بأن العقل يدفع خبره ويرده فما للحرب بيننا وبينكم وجه وكما تساعدنا نحن وأنتم على إبطال هذه الأخبار التي عارضت صريح العقل فساعدونا على إبطال الأصل بنفس ما اتفقنا عليه جميعا في إبطال الأدلة النقلية.
فانظر هذا الإخاء ما ألصقه والنسب ما أقربه وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر حالهم مع هؤلاء الزنادقة في ردهم عليهم وبحوثهم معهم وخضوعهم لهم فيها ومقاومة أعداء الرسل لهم واستطالتهم عليهم ومقاتلتهم لهم بأسلحتهم التي استعاروها منهم.
فإن قلت كيف أصيب القوم مع عقولهم وبحثهم ونظرهم واجتهادهم قلت أصاب عقولهم ما أصاب عقول كفار قريش وغيرهم من الأمم الذين كذبوا الرسل مع تلك الأحلام
(26/67)
________________________________________
ص -861- والعقول ولكن كادها باريها عبرة لكل ذي عقل صحيح إلى يوم القيامة وهذا جزاء من لم يرض بوحي الله وما وهب لأنبيائه من العقول التي نسبتها إلى عقول العالمين كنسبتهم إليهم يوضحه:
الوجه الرابع والثلاثون: وهو أن الله سبحانه اقتضت حكمته وعدله أن يفسد على العبد عقله الذي خالف به رسله ولم يجعله منقادا لهم مسلما لما جاءوا به مذعنا له بحيث يكون مع الرسول كمملوكه المنقاد من جميع الوجوه للمالك المتصرف فيه ليس له معه تصرف بوجه من الوجوه فأول ما أفسد سبحانه عقل شيخهم القديم إبليس حيث لم ينقد به لأمره وعارض النص بالعقل وذكر وجه المعارضة فأفسد عليه عقله غاية الإفساد حتى آل الأمر إلى أن صار إمام المبطلين وقدوة الملحدين وشيخ ا لكفار والمنافقين ثم تأمل كيف أفسد عقول من أعرض عن رسله وعارض ما أرسلوا به فآل بهم فساد تلك العقول إلى ما قصه الله عنهم في كتابه ومن فساد تلك العقول أنهم لم يرضوا بنبي من النبيين ورضوا بإله من الحجر ومن فساد تلك العقول أنهم استحبوا
(26/68)
________________________________________
ص -862- العمى على الهدى وآثروا عقوبة الدنيا والآخرة على سعادتهما وبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
وأفسد عقول أهل الكتابين بكفرهم بالرسول حتى آل أمرهم إلى مقالات الفلاسفة التي قدموها على ما جاءت به الرسل حتى قالوا ما أضحكوا به كافة العقلاء وإن كانوا أصحاب صنائع وأفكار واستنبطوها بعقولهم لعجز غيرهم عنها لكن أفسد عليهم العقل الذي ينال به سعادة الأبد حتى قالوا في فرية سلسلة الموجودات عن واجب الوجود ما هو بسلسلة المجانين أشبه منه بكلام عقلاء الآدميين.
وجعلوا العالم الذي شهدت عليه شواهد الصنعة والاحتياج والافتقار من كون غالبه مسخرا مدبرا مقهورا على حركة لا يمكنه الخروج منها وعلى مكان لا يمكنه مفارقته وعلى وضع لا يمكنه أن يزول عنه وعلى ترتيب شهد العقل والفطرة أن غيره رتبه هذا الترتيب ووضعه في هذا الموضع وقهره على هذه الحركة.
وكون سافله منفعلا غير فاعل متأثرا غير مؤثر كل وقت في مبدأ ومعاد وشواهد الفقر والحاجة والحدوث
(26/69)
________________________________________
ص -863- ظاهرة على أجزائه وأنواعه فجعلوه قديما غير مخلوق ولا مصنوع فعطلوه عن صانعه وخالقه ثم عطلوا الرب الذي فطر السماوات والأرض عن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله فلم يثبتوا له ذاتا ولا صفة ولا فعلا ولا تصرفا باختياره في ملكه ولا عالما بشيء مما في العالم العلوي والسفلي وعاجزا من أنشأ النشأة الأولى أن يعيدها مرة ثانية.
وفي الحقيقة لم يثبتوا ربا أنشأ شيئا ولا ينشئه ولا أثبتوا لله ملائكة ولا رسلا ولا كلاما ولا إلهية ولا ربوبية.
وأما الاتحادية فأفسد عقولهم فلم يثبتوا ربا وظنوا أن في الخارج إنسانا كليا وحيوانا كليا وجعلوا وجود الرب وجودا مطلقا مجردا عن الماهيات وقالوا لا وجود للمطلق في الخارج.
وبالجملة فلم يصيبوا في الإلهيات في مسألة واحدة بل قالوا في جميعها ما أضحكوا عليهم العقلاء.
(26/70)
________________________________________
ص -864- وأما متكلموا الجهمية والمعتزلة فأفسد عقولهم عليهم حتى قالوا ما يسخر العقلاء من قائله كما تقدم التنبيه على اليسير منه وقالوا يتكلم الرب بغير كلام يقوم به وخالق بلا خلق يقوم به وسميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة وقدير بلا قدرة ومريد بلا إرادة وفعال لما يريد ولا فعل له ولا إرادة وقالوا الرب موجود قائم بنفسه ليس في العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره وقالوا إنه لم يزل معطلا عن الفعل والفعل ممتنع ثم انقلب من الامتناع إلى الإمكان بغير تجدد سبب أصلا وقالوا إن الأعراض لا تبقى زمانين وأنكروا القوى والطبائع والغرائز والأسباب والحكم وجعلوا الأجسام كلها متماثلة وأثبتوا أحوالا لا موجودة ولا معدومة وأثبتوا مصنوعا بلا صانع ومخلوقا بلا خالق إلى أضعاف ذلك مما يسخر منه العقلاء.
وكلما كان الرجل عن الرسول أبعد كان عقله أقل وأفسد فأكمل الناس عقولا أتباع الرسل وأفسدهم عقولا المعرض عنهم وعما جاءوا به ولهذا كان أهل السنة والحديث أعقل الأمة وهم في الطوائف كالصحابة في الناس
(26/71)
________________________________________
ص -865- وهذه القاعدة مطردة في كل شيء عصي الرب سبحانه به فإنه يفسده على صاحبه فمن عصاه بماله أفسده عليه ومن عصاه بجاهه أفسده عليه ومن عصاه بلسانه أو قلبه أو عضو من أعضائه أفسده عليه وإن لم يشعر بفساده فأي فساد أعظم من فساد قلب خرب من محبة الله وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والطمأنينة بذكره والأنس به والفرح بالإقبال عليه وهل هذا القلب إلا قلب قد استحكم فساده والمصاب لا يشعر وأي فساد أعظم من فساد لسان تعطل عن ذكره وما جاء به وتلاوة كلامه ونصيحة عباده وإرشادهم ودعوتهم إلى الله وأي فساد أعظم من فساد جوارح عطلت عن عبودية فاطرها وخالقها وخدمته والمبادرة إلى مرضاته. وبالجملة فما عصي الله بشيء إلا أفسده على صاحبه ومن أعظم معصية العقل إعراضه عن كتابه ووحيه الذي هدى به رسوله وأتباعه والمعارضة بينه وبين كلام غيره فأي فساد أعظم من فساد هذا العقل وقد أرى الله سبحانه أتباع رسوله من فساد عقل هؤلاء ما هو من أقوى أسباب زيادة إيمانهم بالرسول وبما جاء به وموجبا لشدة تمسكهم به ولقد أحسن القائل:
وإذا نظرت إلى أميري زادني نظري له حبا إلى الأمراء
(26/72)
________________________________________
ص -866- الوجه الخامس والثلاثون: هذه القاعدة التي أسسها من عارض بين العقل والنقل تقتضي أن لا ينتفع بخبر الأنبياء في باب الصفات والأفعال أحد من الخاصة والعامة. أما الخاصة فهم مصرحون بأن علم ذلك ومعرفته موكول إلى العقول فما دلت عليه وشهدت به قبل وما خالفها من السمع وجب رده فلم يستفيدوا من جهة الخبر شيئا وإنما استفادوا الحق من جهة العقل المعارض لما أخبرت به الرسل.
وأما العامة فإنهم اعتقدوا ما دل عليه الخبر وهو باطل في نفس الأمر فلم يستفيدوا منه معرفة الحق بل إنما حصلوا على اعتقاد الباطل فأي معاداة لما جاء به الرسول أعظم من هذه
الوجه السادس والثلاثون: إن الرجل إما أن يكون مقرا بالرسل أو جاحدا لرسالتهم فإن كان منكرا فالكلام معه في تثبيت النبوة فلا وجه للكلام معه في تعارض العقل والنقل فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن
(26/73)
________________________________________
ص -867- المعارض فمن لم يقر بالدليل العقلي لم يخاطب في تعارض الدليل العقلي والشرعي.
وكذلك من لم يقر بالدليل الشرعي لم يخاطب في هذا التعارض فمن لم يقر بالأنبياء لم يستفد من خبرهم دليلا شرعيا فهذا يتكلم معه في إثبات النبوات أولا وإن كان مقرا بالرسالة فالكلام معه في مقامات:
أحدها: صدق الرسول فيما أخبر به فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنبوة وإن زعم أنه مقر بهما وأن الرسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحق تقريبا إلى أفهامهم ومضمون هذا أنهم كذبوا للمصلحة وهذا حقيقة قول هؤلاء وهو عندهم كذب حسن وإن أقر بأنه صادق فيما أخبر به فالكلام معه في:
المقام الثاني: وهو هل يقر بأنه أخبر بهذا أو لا يقر به فإن لم يقر به جهلا عرف ذلك بما يعرف به أنه ظهر ودعا إلى الله وحارب أعداءه فإن أصر على إنكاره ذلك فقد خرج من جملة العقلاء وأنكر الأمور الضرورية كوجود بغداد ومكة والهند وغيرها وإن أقر بأنه أخبر بذلك فالكلام معه في:
المقام الثالث: وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه
(26/74)
________________________________________
ص -868- ولفظه أو أراد خلافه فإن ادعى أنه أراده فالكلام معه في:
المقام الرابع: وهو أن هذا المراد حق في نفسه أم باطل فإن كان حقا لم يتصور أن يعارضه دليل عقلي البتة وإن كان باطلا انتقلنا معه إلى:
مقام خامس: وهو أنه هل كان يعلم الحق في نفس الأمر أو لا يعلمه فإن قال لم يكن عالما به فقد نسبه إلى الجهل وإن قال كان عالما به انتقلنا معه إلى:
مقام سادس: وهو أنه هل كان يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق كما فعلتم أنتم بزعمكم أو لم يكن ذلك ممكنا له فإن لم يكن ذلك ممكنا له كان تعجيزا له ولمرسله عن أمر قدر عليه أفراخ الفلاسفة وتلامذة اليهود وأوقاح المعتزلة والجهمية وإن كان ممكنا له ولم يفعله كان ذلك غشا للأمة وتوريطا لها في الجهل بالله وأسمائه وصفاته واعتقاد مالا يليق بعظمته فيه وأن الجهمية والمعتزلة وأفراخ اليونان وورثة الصابئين والمجوس هم الذين نزهوا الله سبحانه عما لا يليق به ووصفوه بما يليق